خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022م : آيات الاعتبار في القرآن الكريم ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022م : آيات الاعتبار في القرآن الكريم ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ: 6 صفر 1444هـ – الموافق 2 سبتمبر 2022م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : آيات الاعتبار في القرآن الكريم.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : آيات الاعتبار في القرآن الكريم ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 2 سبتمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : آيات الاعتبار في القرآن الكريم، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة: آيات الاعتبار في القرآن الكريم ، للدكتور محروس حفظي :
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة
(1) حثُّ القرآنِ الكريمِ على الاعتبارِ.
(2) بعضُ مواطنِ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ، وكيفَ نستفيدُ منهُ في واقعِنَا المعاصرِ .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة آيات الاعتبار في القرآن الكريم ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبة بعنوان «آياتُ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ» بتاريخ 6 صفر 1443 هـ = الموافق 2 سبتمبر 2022 م
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة
(1) حثُّ القرآنِ الكريمِ على الاعتبارِ.
لقد رغبَ القرآنُ الكريمُ الإنسانَ على إعمالِ حواسهِ المختلفةِ، وحذرَهُ مِن تعطيلِهَا، وتدرجَ بالعقلِ في عملياتهِ مِن التفكرِ والتأملِ والتدبرِ حتى يصلَ إلى الحالةِ الإيجابيةِ ألَا وهي الاعتبارُ، تلك العمليةُ التي تنقلهُم مِن حالٍ إلى آخر، فالاعتبارُ فعلٌ إيجابيٌّ مبنيٌّ على رؤيةٍ عميقةٍ جمعتْ بينَ التأملِ في تجاربِ الآخرين وبينَ الرغبةِ في الاستفادةِ منها، وأخذِهَا في الحسبانِ عندَ الشروعِ في حركةٍ وفعلٍ جديدٍ يتلافَى ما وقعَ فيهِ الآخرونَ مِن أخطاءٍ وسوءِ تصرفٍ قالَ تعالَى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ومِن خلالِ الاستقراءِ والتتبعِ يتبينُ أنَّ هذا الأصلَ اللغويَّ لكلمةِ “عَبَرَ” قد وردَ اسمًا وفعلًا مضارعًا وأمرًا في “تسعةِ مواضع” مِن القرآنِ الكريمِ بمعانٍ متنوعةٍ, ومدلاولاتٍ مختلفةٍ، الغالبُ فيها البعدُ الوعظيُّ والإرشاديُّ.
وينبغِي أنْ نعلمَ أنَّه لا ينتفعُ بسنةِ الاعتبارِ إلَّا العقلاءُ والنبهاءُ، ومَن كان في قلبهِ خشيةٌ وخوفٌ مِن العزيزِ الجبارِ قالَ ربُّنَا:﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، وهذا ما دلَّ عليهِ السياقُ القرآنيُّ عندَ ذكرهِ لمادةِ “الاعتبارِ” قالَ ربُّنَا: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾، وقالَ أيضًا: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، ولذا صنفانِ مِن الخلقِ لا ينتفعونَ بالاعتبارِ أبدًا هُما: “المتكبرونَ المغرورونَ، والمعطلونَ”، فالمتكبرُ: يرى نفسَهُ أعظمَ مِن الجميعِ، فهو أعلَى مِن أنْ يعتبرَ بموقفٍ أو يهزّهُ حدثٌ جللٌ، وهؤلاءِ محرومونَ مِن الفهمِ، مصروفونَ عن الرشدِ، مخذولونَ عن التوفيقِ الربانيِّ قالَ ربُّنَا: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾، أمَّا المعطلونَ لعقولِهِم، فهم كالعجماواتِ لا تعقلُ ما يجرِي حولَهَا ولا تعِي أمامَهَا، إذ يرى الخطرَ بعينِهِ، والناسُ هلكَى ثم لا يعتبر، بل يسلكُ نفسَ الطريقِ، ويأتِي الفعلَ هو هو، ولذا حُقَّ عليه قولُ ربِّنَا: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وقد فهمَ الصحابةُ – رضي اللهُ عنهم – هذه المعاني القيمةَ، فكانتْ عبادةُ بعضِهِم – رضي اللهُ عنهم– التفكرَ والتأملَ، وحسنَ الاعتبارِ فعَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «سَأَلْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَفْضَلُ عِبَادَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ فَقَالَتِ: التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ» (السنن الكبرى للنسائي) .
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة
(2) بعضُ مواطنِ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ، وكيفَ نستفيدُ منهُ في واقعِنَا المعاصرِ .
لقد حوتْ آيُ الذكرِ الحكيمِ الكثيرَ مِن مواطنِ العبرةِ، وهي أكثرُ مِن أنْ تُحصى أو يشملَهَا العدُّ، وها أنا أقتطفُ مِن أزهارِهَا ما ينيرُ لنَا دُروبَ الحياةِ، ويفتحُ لنَا أبوابَ الفلاحِ والنجاةِ:
*آياتُ الاعتبارِ مِن خلالِ القصصِ القرآنِي: يمكنُنَا استخلاصَ الكثيرِ مِن الدروسِ والعبرِ مِن تاريخِ الأممِ، وحوادثِ الغابرينَ التي وردتْ في قصصِ كلامِ أحكمِ الحاكمين، والتي هي بمثابةِ قوانينَ حياتيةٍ يسيرُ على وفقِ هُداها المجتمعاتُ الإنسانيةُ، وذلك بتجنبِ ما يحققُ الأسبابَ لفناءِ الحضاراتِ وموتِهَا، مهمَا بلغَ رقيُّهَا، وعظمِ تقدمِهَا، وتَبَنِّيِ مَا يُحققُ الأسبابَ لانبعاثِ الحضاراتِ وانتعاشِهَا، وصدقَ ربُّنَا – عزَّ وجلَّ – حيثُ قالَ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ .
قصةُ غزوةِ بدرٍ الكبرى: وقد تجلتْ في تلك الغزوةِ قدرةُ اللهِ – تعالى – على المسلمين، حيثُ ظهرَ أنَّ النصرَ مِن عندِ اللهِ تعالَى، وأنَّ للهِ جنودًا كثيرةً ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ واللهُ – سبحانَهُ – قد أمرنَا في صريحِ الكتابِ الكريمِ بإعدادِ العدةِ، وأخذِ الأهبةِ، وقد بلغَ النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلم – والصحابةُ المدَى في هذا، فلم يدعُوا وسيلةً مِن وسائلِ القوةِ والنصرِ مِمّا يقعُ تحتَ أيديهِم وفي استطاعتِهِم إلّا اتبعُوهَا بِمَا يلائمُ عصرهُم، ومع هذا كانوا على صلةٍ وثيقةٍ باللهِ تعالَى، وتوكلٍ عليهِ، وهم على صلاحٍ واستقامةٍ، لم يغترُّوا بعددٍ ولا عدةٍ، وإنًّما يستنزلُون النصرَ مِن عندِ ربِّهم – عزَّ وجلَّ -، ولذلك كان النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلم – كثيرًا ما يلجأُ إلى الدعاءِ بل ويبالغُ فيهِ؛ ليثبتَ في نفوسِهِم هذا المعنَى الكريمَ، وإنَّهُ لدرسٌ عظيمٌ يجبُ أنْ يعيهِ كلُّ عاقلٍ ولبيبٍ أنْ يصلَ حبلَهُ بحبالِ السماءِ، وإلّا إذا تخلَّى اللهُ – تعالى – عنَّا، ووكلَنَا إلى أنفسِنَا، واغترارِنَا، عزَّ علينَا استنزالُ التوفيقِ منهُ – سبحانَهُ – قالَ ربُّنَا مخبرًا عن أحداثِ تلك الغزوةِ: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، وفي هذا عبرةٌ لكلِّ عاملٍ في هذه الحياةِ ألَّا يعتمدَ على الأسبابِ الماديةِ فقط دونَ اللجوءِ إلى المُسببِ وهو اللهُ – سبحانَهُ -، وأنْ يتجنبَ الغرورَ بعدَ نجاحهِ، وأنْ يعلمَ أنْ فلاحَهُ إنَّمَا هو بتوفيقِ اللهِ لهُ، وأنَّ ما عندَ اللهِ – عزَّ وجلَّ – لا ينالُ إلّا برضاه، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ» (ابن ماجه، وسنده صحيح) .
قصةُ قارون: بعضُ الذين فاجأتهُم النعمةُ نظرُوا إلى البشرِ نظرةَ ازدراءٍ واحتقارٍ، واعتزازًا بأموالِهِم وأولادِهِم وصحتِهِم، وهؤلاء ضربُ اللهُ لهم مثلًا بقارون ﴿إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ فنسبَ النعمةَ لنفسهِ، ولم ينسبْهَا لربِّهِ سبحانَهُ، فكيف كانتْ العاقبةُ ؟ ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾، فلا تظنَنَّ أنَّ غناكً فطنةٌ منك وذكاءٌ، وأنَّ فقرًكَ غباوةٌ، إنَّما الأمرُ يرجعُ إلى حسنِ تدبيرِ الخالقِ – جلًّ وعلَا – فهو يُعطِي لحكمةٍ، ويمنعُ لمنفعةٍ، والكلُّ داخلٌ تحتً مشيئتهِ وإرادتهِ ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾، فهو المتصرفُ الحقيقيُّ في هذا الكونِ، وهو المهيمنُ عليهِ.
قصةُ أصحابِ الجنةِ: هؤلاءِ كانُوا مِن أهلِ اليمنِ، وكان أبوهُم قد تركَ لهم بستانًا، وكان ما استغلَّهُ منها يردُّ فيها ما يحتاجُ إليهِ، ويدخرُ لعيالهِ قوتَ سنتِهِم، ويتصدقُ بالفاضلِ، فلمَّا ماتَ وورثَهُ أولادُهُ، قالُوا: لقد كان أبونَا أحمقًا، إذ كان يصرفُ مِن هذه الجنةِ شيئًا للفقراءِ، ولو أنَّا منعناهُم لتوفرَ ذلك لنِا، فلمَّا عزمُوا على ذلك عُوقِبُوا بنقيضِ قصدِهِم، فقد أذهبَ اللهُ ما بأيديهِم بالكليةِ: أذهبَ رأسَ المالِ والربحِ، فلم يبقَ لهم شيءٌ، واستمعْ إلى هذا الحوارِ الذي يجسدُ المشهدَ في صورة حيّةٍ متحركةٍ كأنَّهُ واقعٌ ومشاهدٌ: ﴿إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾، أفلا تكونُ تلك القصةُ عبرةً لمَن تسولُ له نفسُهُ أكلَ الحرامِ، ويجمعُ تبريراتٍ واهيةً، وحججًا هشةً باليةً، قوامُهَا البحثُ عن تأمينِ المستقبلِ للأبناءِ؛ ليوفرَ لهُم المستقبلَ المشرقَ المضيءَ، وكأنَّهُ لم يسمعْ قولَهُ تعالَى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، ولذا كان صلاحُ الآباء حائطَ سندٍ منيعٍ أمامَ هؤلاءِ الفتيةِ الذين غرتهُم الحياةُ لكن سرعانَ ما رجعُوا إلى رشدِهِم ﴿قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ *عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ﴾، وهذا الصلاحُ أيضًا هو الذي سخرَ الخَضِرَ وموسَى – عليهما السلامُ – كي يبنِيَا للغلامينِ اليتمينِ الجدارَ الذي يحفظُ كنزهمَا – حتى يكبرَا- مِن أنْ تمتدَّ إليهِ آيادِي المعتدين، وعبثُ العابثين، ومِن هُنا نأخذُ موطنَ العبرةِ، ومكمنَ الفائدةِ، فلا نمنع فضلنَا ونصحنَا عن الآخرين، ولذا حذرَ رسولُنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِن داءِ الحرصِ والبخلِ، والركونِ إلى الدنيا، والحرصِ عليها؛ لأنَّهُ أهلكَ بعضَ الأممِ السابقةِ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ:«إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» (أبو داود وأحمد، وسنده صحيح) .
وهكذا لو تأملنَا باقي القصصِ القرآنِي نجدُ أنَّ جلَّهَا تقومُ على تشخيصِ الداءِ، ووضعِ الدواءِ الناجحِ للإنسانِ عبرَ مراحلَ زمنيةٍ مختلفةٍ، يصلحُ تطبيقُهَا في أي زمانٍ ومكانٍ، فقصصُ الأنبياءِ – عليهم السلامُ – تناولتْ علاجَ مرضٍ معنويٍّ معينٍ – فيمَا يتعلقُ بالعباداتِ والأخلاقِ السيئةِ والمعاملاتِ -، إذ حرصَ كلُّ نبيٍ منهم على استئصالِهِ مِن قومِهِ، وسلكَ في ذلك عدةَ وسائلَ كالترغيبِ والترهيبِ، والوعدِ والوعيدِ، فما كان مِن أقوامِهِم سوى العنادِ والجنوحِ إلى الهوى والركونِ للشهواتِ والملذاتِ، فكان العقابُ الإلهي الرادع لهؤلاءِ ولكلِّ مَن تسولُ لهُ نفسهُ عبرَ الأجيالِ اللاحقةِ، وحركةِ الحياةِ المتعاقبةِ، وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى ذلك في غيرِ آيةٍ قالَ ربُّنَا: ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، وفي ذلك رسالةٌ للبشريةِ أنْ تستجيبَ للنداءِ الربانِي حتى لا تقعَ فيمَا وقعَ فيهِ مَن سبقَهُم مِن العصاةِ والمجرمين، وأيضًا دعوةٌ للالتزامِ بمنهجِ ربِّ العالمين – تعالى – الذي فيه النجاةُ والحياةُ قالَ ربُّنَا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ﴾، وقالَ أيضًا: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾، وقد اقتضتْ سنةُ اللهِ – عزَّ وجلَّ – الكونيةُ ألّا يغيرُ مِن حالِ الإنسانِ نحوَ الأفضلِ إلّا إذَا كان ذلك مشفوعًا بالنيةِ الصالحةِ، ثم ترجمةِ ذلك إلى واقعٍ عملِي تطبيقِي مصحوبًا بالعزيمةِ والإصرارِ، أمَّا أنْ يجلسَ الإنسانُ في بيتهِ منتظرًا فرجَ ربِّهِ دونَ الاعتبارِ بمَن سبقَهُ، فهذا يتعارضُ جملةً وتفصيلًا مع سننِ الخالقِ – عزَّ وجلَّ – في الأرضِ، ويتناقضُ مع قانونِ العدلِ الإلهِي قالَ تعالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾، وقالَ تعالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ .
* آياتُ الاعتبارِ في وعدِهِ ووعيدِهِ، وإنذارهِ وتبشيرهِ: المستقرءُ لآيِ الذكرِ الحكيمِ يجدُ أنَّ اللهَ وازنَ بينَ خطابِ التبشيرِ والتنفيرِ، والوعدِ والوعيدِ، وفي هذا دعوةٌ للإنسانِ أنْ ينحى هذا الأسلوبَ في حياتهِ وتعاملهِ، فلا يغلِّب أحدهمَا على الآخرِ، وإلّا فقد وضعَ الحكمةَ في غيرِ موضعِهَا، وضلَّ الطريقَ، ولم يعتبرْ بالسابقين مِمّن غالُوا في دينِهم، ولذا كانتْ وصيةُ نبيِّنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأصحابهِ ومَن يأتي بعدَهُم ألا يتكلفُوا ويتعنتُوا في أمرِ دينِهِم قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ:«بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (النسائي وأحمد، وإسناده صحيح) .
إنّ المسلمَ الفَطِنَ لو أخذَ بتلك النصيحةِ – في عباداتهِ وأخلاقهِ، وابتعدَ عن أسلوبِ التشددِ والتطنعِ فيمَا لا فائدةَ منهُ – ؛ لجنى الخيرَ الوفيرَ، وأحسَّ براحةِ الضميرِ، أمَّا كثرةُ الأسئلةِ، والدخولُ في مواطنِ الاختلافِ، وتغليبُ خطابِ الإنذارِ، فهذا ينفرُ المخاطبَ مِن الاستمالةِ للدعوةِ، ويشتتُ الشملَ، ويفرقُ الصفَّ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:«إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (متفق عليه)، فالبصيرُ مَن يعتبرُ بخطابِ التبشيرِ الذي جاءَ في القرآنِ الكريمِ؛ لأنَّ هذا يفتحُ لهُ بابَ الأملِ والتفاؤلِ لغدٍ مشرقٍ، ويغلقُ بابَ القنوطِ واليأسِ مِن قاموسِ حياتهِ، إذ صارَ يوقنُ أنَّ العاقبةَ لمَن اتقَى وصبرَ فهذا يوسفُ – عليه السلامُ – حسدَهُ أخوتُهُ، وهمُّوا بقتلِهِ ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾، ويرمُونَه في الجبِّ، وتمضِي الأيامُ، ويمكِّنُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – لهُ في الأرضِ بل ويأتِيه أخوتُهُ أذلةً طائعين ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهذا يبعثُ في نفسِ المؤمنِ الثقةَ في تدبيرِ اللهِ – تعالَى – وحسنَ الظنِّ بهِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» (أحمد، حديث صحيح) .
*آياتُ الاعتبارِ في مخلوقاتهِ: إنَّ النظرَ في مصنوعاتِ اللهِ تعالى، والتفكرَ في مخلوقاتِهِ أعظمُ وسائلِ الاعتبارِ؛ إذ الصنعةُ تدلُّ على الصانعِ، ودقةُ الخلقِ تدلُّ على عظمةِ الخالقِ، وربُّنَا – سبحانَهُ – يأمرُنَا في آيِ الذكرِ الحكيمِ إلى التأملِ في خلقِ السمواتِ والأرضِ، والإنسانِ والحيوانِ قالَ تعالَى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وهذا يزيدُ المؤمنُ إيمانًا، ويدعُو غيرَ المؤمنِ إلى الإيمانِ باللهِ تعالَى والاهتداءِ بهديهِ والعملِ بمقتضَى شرعهِ وأمرهِ، فمَن نظرَ أبصرَ، ومَن أبصرَ عرفَ، ومَن عرفَ هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، ولذا جاءَ الأمرُ بالاعتبارِ صراحةً في بعضِ المخلوقاتِ قالَ ربُّنَا: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ﴾ يقولُ الطاهرُ بنُ عاشورٍ: (وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُنَا أَنَّ بِأَلْبَانِ الْأَنْعَامِ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ لِآثَارِ مَاءِ السَّمَاءِ أَثَرًا فِي تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانِ بِالْمَرْعَى، وَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بِمَا تُنَبِّهُ إِلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ الْأَلْبَانِ) أ.ه .
إنَّ هذه الآياتِ الكونيةَ العظيمةَ التي يراهَا الناسُ في الكونِ الفسيحِ هي دلائلٌ باهرةٌ، وبراهينٌ ساطعةٌ على قدرةِ الخالقِ عزَّ وجلَّ، فمَن الذي أوجدَ هذه المخلوقاتِ العظيمةَ والكثيرةَ، ومَن الذي أحكمَهَا هذا الإحكامَ البديعَ، ومَن الذي نظمَ حركاتِهَا العجيبةَ التي تحارُ الأفكارُ في حسنِهَا، وحسنِ نظامِهِ قالَ ربُّنَا في سياقِ الحديثِ عن إنزالِ الماءِ مِن السماءِ ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾، فما أحوجنَا إلى “تسبيحِ المتيقظين” الذي يحركُ القلوبَ نحو خالقِهَا، فتعتبرُ بمَن وما حولَهَا، يقولُ الإمامُ ابنُ الجوزي: (تأملتُ على أكثرِ الناسِ عباداتِهم؛ فإذا هي عاداتٌ، فأمَّا أربابُ اليقظةِ، فعاداتُهُم عبادةٌ حقيقيةٌ، فإنَّ الغافلَ يقولُ: “سبحانَ الله” عادةً، والمتيقظُ لا يزالُ فكرُهُ في عجائبِ المخلوقاتِ أو في عظمةِ الخالقِ، فيحركُهُ الفكرُ في ذلك، فيقولُ: “سبحانَ الله”، ولو أنَّ إنسانًا تفكرَ في رُمَّانَةٍ، فنظرَ في تصفيفِ حَبِّهَا، وحفظهِ بالأغشيةِ لئلَا يتضاءلُ، وإقامةِ الماءِ على عظمِ العجمِ، وجعلِ الغشاءِ عليهِ يحفظهُ، وتصويرِ الفرخِ في بطنِ البيضةِ، والآدمِي في حشا الأُمِّ، إلى غيرِ ذلك مِن المخلوقاتِ أزعجهُ هذا الفكرُ إلى تعظيمِ الخالقِ، فقالَ: “سبحانِ الله”! وكان هذا التسبيحُ ثمرةَ الفكرِ، فهذا تسبيحُ المتيقظين، وما تزالُ أفكارُهُم تجولُ، فتقعُ عباداتُهُم بالتسبيحاتِ محققةً، وكذلك يتفكرونَ في قبائحِ ذنوبٍ قد تقدمَ، فيوجبُ ذلك الفكرُ حركةَ الباطنِ، وقلقَ القلبِ، وندمَ النفسِ، فيثمرُ ذلك أنْ يقولَ قائلُهُم: “أستغفرُ الله”، فهذا هو التسبيحُ والاستغفارُ، فأمَّا الغافلون، فيقولون ذلك عادةً، وشتانَ ما بينَ الفريقين) أ.ه (صيد الخاطر1/ 409) .
ألَا يتعلمَ الخلقُ بعضَ المهاراتِ والفضائلِ في حياتِهِم مٍن بعضِ المخلوقاتِ “كعالمِ النحلِ” التي هي آيةٌ وعبرةٌ في: النظامٍ، وحسنِ الترتيبِ والتنسيقِ، والعملِ التعاونِي، والقدرةِ على التحملِ، والمرونةِ والتأقلمِ، واستشرافِ المشستقبلِ، وحسنِ التخطيطِ، وفنِّ العمارةِ. إنَّ كلَّ فردٍ في خليةِ النحلِ لهُ دورٌ مميزٌ يقومُ بهٍ، والملكةُ هي المسؤولةُ عن توزيعِ تلك الأدوارِ، وتقومُ بذلك بحكمةٍ غير معهودةٍ، ممّا يظهرُ جماعات النحلِ وكأنهَا جيوشٌ مصفوفةٌ، ويُعرفُ مجتمعُهُم بقدرتهِ الكبيرةِ على التعاونِ، وإنجازِ المهامِّ بشكلٍ احترافيٍ مميزٍ، ويستطيعُ النحلُ التحملَ والعيشَ في بيئاتٍ قاسيةٍ حيثُ إنَّ الدراساتِ أثبتتْ أنَّه يستطيعُ الطيرانَ إلى أنْ يصلَ إلى قمةِ جبالِ إيفرست ليسَ فحسبْ بلْ لهُ القدرةُ على التكيفِ مع أي ظروفٍ بيئيةٍ، فهو يبنِي بيوتَهُ في الجبالِ وعلى جذورِ الأشجارِ، كما أنَّ النحلَ يقومُ بتخزينِ المزيدِ مِن الطعامِ لأوقاتِ الشدةِ والتعسرِ، فهو لا يهتمُّ بالحصولِ على طعامِ يومهِ فقط، بل يُراعِي الأيامَ العجافَ أيضًا، إذ يمتلكُ خمسةَ أعينٍ إلى غيرِ ذلك مِمّن نجهلُهُ اليوم وسيكشفُ عنه المستقبلُ، وصدقَ اللهُ حيثُ أمرَنَا بالاعتبارِ والتفكرِ في هذا الكائنِ الصغيرِ فقالَ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
وأخيراً: إنَّ آياتِ الاعتبارِ في القرآنِ الكريمِ فيها شَحْذُ ذهنِ المخاطَبِ، وتحريكُ طاقاتِهِ الفكريةِ، واستحضارُ ذكائهِ؛ لتوجيهِ عنايتهِ حتى يتأمَّلَ ويتفكَّرَ، ويصلَ إلى إدراكِ المرادِ، وهو في ذلك يسلكُ أساليبَ متنوعةً، وطرقَ متعددةً؛ لأنَّه كتابٌ وافٍ بمطالبِ البشرِ على اختلافِ أجناسِهم وعصورهِم وبيئاتِهم، فمَا مِن صغيرةٍ ولا كبيرةٍ مِمّا يحتاجُ الناسُ إليهِ إلَّا وسِعَها تشريعُهُ، وشملَها بيانُهُ، فهو كتابُ هدايةٍ، ومنهجُ حياةٍ.
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ يوفقَ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيه نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: د / محروس رمضان حفظي عبد العال
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف